الأسواق بين طيحة وقومة !!
تحتل الأسواق منذ القدم مكانة بارزة عند العرب في الجاهلية والإسلام وحتى يومنا هذا ولعل اصل الكلمة كما ذكرها ابن سيده اشتقت من سوق الناس بضائعهم إلى الأسواق للمتاجرة، وهي متفاوتة من حيث الشهرة والذيوع وأعداد مرتاديها ، فمن الأسواق ما كان موسميا كعكاظ ومجنة وذي المجاز ، ومنها ما كان اسبوعياً يعقد مرة في يوم محدد من الأسبوع يقتصر على القرية أو المدينة وما يجاورهما من القري والقبائل ولم تكن الأسواق القديمة مجرد أماكن يتمّ فيها التبادل التجاري من بيع وشراء بل اكتسبت أهمية أكبر من ذلك كونها مَحفلاً لتجمّع الأدباء والشعراء وكبار القوم وعامتهم أضف إلى ذلك أنها كانت مقصداً لمن يطلب الامن والفدى، يتبارى فيها الشعراء والخطباء بأغراض الشعر المتنوعة كالفخر والمديح والمكاثرة والمنافرة والمقارعة والمعاظمة فيفوز فيها أناس ويخسر آخرون، ومن المعلوم أن أهم أسواق لجاهلية عكاظ ومجنة وذي المجاز كانت تقام في الاشهر الحرم ؛ فلا يجوز فيها القتل والعدوان ولا الغزو والأخذ بالثأر وهي أسواق عامة موسمية ليس فيها عشار ، وأهم ما يربط بين الثلاثة قيامها في موسم الحج ، وكانت تنصب مجتمعه في منطقة جغرافية واحدة قريبة من مكة المكرمة، وهذه الميزة اكسبتها قيمة حضارية وتاريخيه وأتاحت لها نوعاً من الحرمة والحماية وكانت متتالية فما كادوا يخرجون من سوق إلا ويدخلون في الأخر حيث يبدؤون موسمهم بسوق بعكاظ مع أول هلال ذي القعدة ويمتد إلى العشرين منه ثم يبدأ سوق مجنة في اخر عشرة أيام منه ويبدأ ذو المجاز أول شهر ذي الحجة حتى اليوم الثامن يوم التروية ، وكان يقوم على سوق عكاظ هوازن وعلى ذي المجاز قبيلة هذيل وعلى مجنة قبيلة كنانة ، أما عن أسواق الأزد في الجاهلية فكان أشهرها سوق حباشة يقع في تهامة بصدر وادي قنونا وهي خارج نطاق الأسواق السابقة لا تقل عنها أهمية ، ويتزامن انعقاده مع الاشهر الحرم ايضاً وتحديداً في شهر رجب وتبرز تلك المكانة بانعقادها في الاشهر الحرم ؛ احترازا لما يحتمل وقوعه من مشاكل ومخالفات سياسية واجتماعية ودينية، وكان لحباشة ما لغيره من المزايا ، وقد وصل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة - بتجارة خديجة -رضي الله عنها- واستأجرت معه رجلاً من قريش ، وهي من مكة على بعد ست ليالٍ ومن الأعلام الذين شهدوا سوق حباشة الشنفري وقد أورد صاحب كتاب الاغاني ما نصه من قول رجل "تركت الشنفري بسوق حباشة " وهي آخر سوق خٌربت من أسواق الجاهلية عام 179هـ، و وقد توقفت و واندثرت الأسواق الثلاثة (عكاظ مجنة ذي المجاز في صدر الإسلام عام 129هـ ومن معالم الأزد في السراة منذ الجاهلية ثروق- تذكر المراجع- أن ثروق بلدة عظيمة في دوس؛ كان بها منبراً والمنابر وقتها لم تقم إلا في الاسواق ومعروف ان غالبية مناطق الجزيرة العربية وغيرها كانت تنتشر بها الأسواق سواءً في الجاهلية أو الاسلام وقد توسعت وانتشرت بعد الفتوحات و انتقال الخلافةكسوق المِرْبَد وهو أشهر أسواق العرب بعد الإسلام وسوق دومة الجندل كانت ملتقى طرق مهمة بين العراق والشام وجزيرة العرب وسوق المُشقر وهجر بالبحرين وسوق حَجْر اليمامة وسوق الشِّحْر بين عدن وعمان وسوق خيبر بالمدينة وسوقا صحار ودبا بعمان وسوق عدن وصنعاء.
أما الأسواق المحلية الصغرى التي كانت تُعقد أسبوعيًّا في المدن والقرى وخاصة غامد وزهران فهي كثيرة جدًّا ، وأرى أن الباحثين والكتاب لم يولونها اهتماماً في مؤلفاتهم إلا ما ذكره بعض الرحالة من قبيل : " جميع أهل اليمن وأهل الحجاز لهم أسواق يجتمعون فيها في ايام مخصوصة " اضافة إلى ما ذكره العصامي عام 987هـ أن هاجم الشريف ابي نمي زهران بحملة كان من نتائجها احراق سوقي الخميس في السراة وسوق المخواة في تهامة ، وقد تعددت أسباب انشار هذه الأسواق حيث لم يكن لطبيعة الحياة الاجتماعية في تلك الفترة وما تفرضه الظروف البيئية من بدٍ من إقامة تلك الأسواق التي كانت تلبي احتياجات ضرورية ومحلية اقتضتها معايش الناس وطبيعة توزعهم في ديارهم وكانت منتشرة وعامرة قبل عام 1395هـ وعلى سبيل المثال تلك الأسواق الكثيرة كما المحنا في قبيلتي غامد وزهران، حيث أنهما تتكونان من عدة قبائل وكان لكل قبيلة سوقاً مميزاً يقع في إحدى قراها وقد تكون أكبرها واكثرها شهرة حتى يسهل الوصول إليه ويعتبر في نفس الوقت مقراً للقبيلة ودليل قوتها ووحدتها ، ولا يمكن أن تقوم مثل تلك الاسوق إلا في ظل حماية قبيلة قوية قادرة على رعايته وتأمينه من أجل ضبط شؤونه وتوفر وسائل الحماية والأمن فيه ،وجدير بالذكر أنه ليس هناك تاريخاً يعرف بدقة لنشأة تلك الأسواق وقدمها ، وأغلب هذه الأسوق كتبت شداتها وقوانينها في القرن العاشر الهجري وما تلاه ،و تتوزع مواعيد الأسواق على أيام الاسبوع وتسمى باسم اليوم الذي يعقد فيه السوق ، ومن أشهرها: سوق الباحة والمندق ورغدان وبالجرشي والأطاولة و الرومي وبرحرح والصغرة والكرادسة والصفح )وفي تهامة سوق: الحجرة و قلوة و المخواة وهذا الأخير فرض عليه أمير مكة فيصل بن الحسين حصاراً وتحكيراً 1329هـ وكانت تحكمها أنظمة وقوانين وعقوبات صارمة تسمى عقود السوق تمنع أن يعتدي شخص على آخر بحيث تحدد الأماكن المحيطة بالسوق وأسباله من جميع الجهات وتحديد مدة معينة لهذه الحماية بيوم السوق ويوم قبله وأخر بعده من أهم تلك القوانين عدم إشهار السلاح فيه وعدم اختلاق مشكلة فيه ولذلك فإن صاحب الثأر لا يستطيع التعدي على غريمه اضافة إلى التأكد من سلامة المكاييل والموازين ومراقبة الأسعار والسلع وذلك من قبل أشخاص يسمونهم عقداء السوق أو شخص يسمى قيم السوق ويحق لكل شخص أن يبيع ويشتري في السوق وأحيانا يقسم على القرى والقبائل أنصبة، فيقال للقبيلة أو القرية الفلانية ناصفة السوق أو رابعته أو ثامنته ويتكون السوق من عدة مواقع أهمها ساحة السوق وعادة ما يكون فيها البيع بافتراش أرض السوق في صفوف متراصة كما يوجد بعض الدكاكين في محيط السوق
وكذلك المجلبة: أماكن بيع المواشي واماكن بيع منتجات الحرف اليدوية والمسعرة وهي الأماكن المخصصة لبيع الحبوب " الميرة "وكانت غلة الحبوب لها شأن كبير وخاصة عند الزراع وكانت تمثل لصاحبها ثروة وله مكانه وكلمة مسموعة في السوق ومن طرائف العرب في ذلك : غلة الدور مسألة وغلة النخل كفاف وغلة الحب ملك، وكانت عملية البيع والشراء بالعملة المستخدمة في تلك الازمنة أو بالمقايضة لسلعة بسلعة أو الرهن والتداين ولم تقتصر هذه الأسواق على البيع والشراء بل كانت تمثل مرحلة تاريخية هامة من التاريخ المجتمعي لمنطقة الباحة باعتبارها بوتقة تصب فيه أعمال ووظائف وأنشطة كثيرة بعضها تشبه إلى حد كبير تلك الانشطة التي كانت في الاسواق الكبرى في الجاهلية رغم محدوديتها والفارق الزمني بينهما فكان بينها قاسم مشترك في عدة نواحي كحرمة السوق وعدم الاخذ بالثأر والتعدي والخطابة التي كان يقابلها البدوة والمديح والمعاظمة وغير ذلك، كما كان لها أنشطة ووظائف اجتماعية مختلفة كالتنكيل والتشهير بالخارجين على قوانين المجتمع وشدة السوق والاعلان عن الحروب واعلان الجوار أو فكة واعلان أو فرض قانون معين واحياناً لتنصيب شيخ أو خلعه والتحذير من خطر الأوبئة والأمراض ونقل الأخبار والمواعيد والتبليغ عن أي خبر يهم الناس وكان يطلق على السوق اسم "البندر" في عهد الاشراف
وقد استحدمت الأسواق في بدايات الحكم السعودي مؤسسات وهيئات حكومية في نشر الوعي والوعظ وتثقيف وارشاد الناس والجهادوالتعليم الديني
وتنفيذ العقوبات في حق المخالفين وقد توقف أكثر هذه الاسواق واختفت وتحولت بعضها إلى معالم سياحية، وانتقلت بعض الأنشطة والممارسات إلى جهات مختصة وان اعتبرنا ذلك طبيعياً بفعل التطور والحداثة التي فرضت نفسها بقوة وأخذت معها السمو والنسق القيمي الذي كانت تمارسه تلك الاسواق وقد رأينا مؤخراً بعض الانشطة والمهرجانات التي لا تتفق بعض انشطتها مع ما كانت عليه تلك الاسواق من قيم وعادات وتقاليد.
عبدالحي إبراهيم الغبيشي : مؤلف وباحث في التاريخ