يكتب : صالح بن خميس الزهراني
ونحن نودع قبل فترة زمنية قريبة الشيخ/عبد الوهاب بن بخيت الصعيري الزهراني شيخ قبيلة بني بشير بزهران - رحمه الله ما يقرب من ٧٠ سنة تزيد او تقل قليلا- من عام ١٣٦٩- ١٤٣٨هـ، في مقبرة الشهداء بمكة المكرمة بعد الصلاة عليه بالمسجد الحرام، وكان حضور من ينتظر نعشه في المقبرة جمع غفير من الناس سواء من زهران وغيرهم من رجال القبائل فصلينا عليه بعد ان وضع امامنا صلاة لاركوع ولاسجود بها، ودعناه بعد ان كان يسابق ربعه في مناسباتهم المفرحة منها وماكان محزن كتوديعه.. فقد عرف عن الشيخ عبد الوهاب قربه من جماعته وافراد قبيلته بني بشير.
وما ان فرغنا من الصلاة حتى تسابق جمع غفير منا على حمله للقبر مسكنه الأخير في باطن الأرض ومنه الى حياة برزخيه بإذن الله.. فكنا جميعا بين من يتألم بصمت ودعاء له بجنة عرضها السماوات والأرض، واخرين عيونهم تسح بدمع سخي وان كان خفي الا انه مشاهد.. كيف لا يكون على قامة كبيرة، كان منه حب واحتواء للصغير ومداراة الكبير طيلة حياته، قريب من الجميع فقد كان شخص وشخصية لا يمكن نسيانه، او ان تُنسى بما خلف من بصمة في سجله الزمني بين ربعه ومن حوله.. ومن قصده، سيسطرها له الزمن في سجله بما كان منه من صفات الشيخ الوقور مع اسهامه في تطور بطحان (بيدة) وكافة زهران وغامد عامة في تسهيل حركة النقل والتنقل بين المنطقة وبيشة والطائف الى مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض.
فكانت بيده لمن لا يعرفها فيها سكن ومضافة الشيخ عبد الوهاب الصعيري ميناء زهران الجاف يمتد نفعه الى القبائل المجاورة لزهران.. فكانت بطحان اول محطة تصل اليها السيارات منذ ان استخدمت السيارات في النقل والتنقل بين مدن #السعودية في عهد المؤسس رحمه الله، فوصلت السيارة الى زهران وماحولها من قبائل عبر طريق واحد وفي موقع واحد هو بطحان، عام ١٣٦٨هـ بحسب ما أورد السلوك علي –رحمه الله- في كتابه المعجم الجغرافي ص ٣١٨، وذكر ان اول سيارة وصلت لبطحان من الطائف بعد ان عبد طريقها أهالي بطحان كان يقودها سعد بن علي بن شيبان الغامدي، قبل زيارة الملك سعود رحمه الله لغامد وزهران عام ١٣٧٤هـ، ففُتح الطريق من تربة الى العقيق ثم الى بالجرشي والى الباحة ومن الباحة الى بيده فالا طاولة وبني عدوان وتحديدا بيت السبيحي، وهناك رواية تقول ان بني عدوان صنعوا خبزة من الحنطة –حبوب البر- قطرها يزيد عن ٧ امتار لم يصنع قبلها ولا بعدها تقديرا ومحبة في من زارهم الملك سعود رحمه الله، - حاولت الحصول على صورة تلك الخبزة فلم اجدها لعل الزمن يظهرها لنا - ومن الاطاولة امتدت زيارة الملك سعود للمندق الذي كان من المفروض ان يكون مقر امارة زهران عندما امر بذلك الملك عبد العزيز رحمه الله.. وقد يكون هناك أسباب طبغرافية وقتها، لعلنا نصل الى ذلك في تقديم معلومات موثقة قريبا.
فقد كان بطحان او بيده اخر ما تصل اليه سيارات نقل المسافرين وبضائع المنقولة في ذلك الوقت من المنطقة بطحان الى الطائف سوق زهران وغامد اذ كانت زهران الحجازية تسوق منتجاتها في حاضرتها الطائف، ومكة المكرمة سواء كانت المنتجات زراعية، وانعام مع ادوات حرف زراعية وغيرها.. إذ كان في ذلك الوقت الشيخ عبد الوهاب الصعير –رحمه الله- شاه بندر تجار بطحان وقائم مقامه وقبله والده... رحمهم الله جميعا.. ولم يكن الشيخ الصعير مراقب وحل ما يشكل بين أصحاب السيارات ومن يستفيد من السيارات في النقل والتنقل، بل كان من يحل مشاكل المتخاصمين بين مرتادي بطحان سواء في سوق بطحان بيع وشراء او للسفر او عند القدوم، كما كان لبيت الشيخ مضافة يأوي اليها المنقطع وصاحب الحاجة وطالب المساعدة.
واثناء وقوفنا وجمع كثير على قبر الشيخ عبد الوهاب الصعيري رحمه الله لمواراته الثرى، عاد بي الزمن الى الوراء في خلفية زمنية من الذاكرة الجميلة، وتحديدا في عام ١٤٠٥هـ، فذهبت بنفسي مع نفسي في نظرة للقبور وقلت كثير منهم يعرف الشيخ الوقور كريم السجايا خاصة من ربعه زهران ومن عرفه من باقي القبائل المجاورة للديرة التي عاش فيها، في استعاره للماضي الذي كان فيه الشيخ عبد الوهاب الصعيري رحمه الله تمتلىء به العين وتفيض، ويشنف الاذان بسماع خلقه واخلاقه مع ربعه بني بشير ومن عرفه او تعرف عليه.. ثم عادت بي النفس الامارة بالخير باذن الله الى محاسن الصدف الجميلة عندما جمعتنا في الرياض مع الشيخ مفرح بن خضران، الشيخ منسي بن عصيدان، الشيخ جمعان السبيحي، الشيخ عبد الله بن رقوش، الشيخ عبدالعزيز بن عبد الهادي، الشيخ ذياب بن سعيد، الشيخ عبد الوهاب الصعيري، الشيخ عيضة بن صالح، الشيخ جابر الحسين، الشيخ فيصل بن زنان رحمهم الله جميعان، وهم في زيارة للملك فهد وقتها للسلام عليه وتقديم بعض طلباتهم له مباشرة، وللوزراء والتعقيب على طلبات لم تنفذ من وزارات لها فروع في الباحة، فكان لقاء شرفت فيه مع نخبة من رجال غامد وزهران في الرياض يتقدمنا عبد العزيز بن خضران رحمه الله وعبد الله بن منسي بن عصيدان عطيه الشدوي رحمه الله ودخيل الله الغامدي، و احمد بن لمعان، مسفر بردي والمهندس حامد بردي، وغيرهم الكثير لا تتسع المساحة لذكرهم مع شكي في ذاتي بانني سأتجاوز أسماء نسيان مني فاقع في حرج من تلك القامات الكبيرة في اقوالها وافعالها، وكان لنا مسامرات معهم رحمهم الله كل واحد منا يحتفي بهم في منزله، فكان لي شرف استضافتهم وفي ذلك اليوم عرفت قصة نقل الامارة من بلجرشي للباحة من الشيخ عبد الله بن رداس الذي قابلته بالمصادفة في يوم كان احتفائي بهم في منزلي فعزمته بعد ان قابلته بضيف له شمالي قصدني للاتصال بهاتفه.. سوف اروي لكم ذلك في موضوع مستقل واشرح لكم كيف استقبل عندما دخل عليهم في المجلس ورفع الصوت الشيخ مفرح بن خضران رحمه الله وهو يتصفح وجه بن رداس يالله حيه يالله حيه.
في تلك السنة كان لنا في كل ليلة مع شيوخنا جلسة في بيوت بعضنا وفي السنة الثاني عند قدومهم للرياض قررنا ان يكون اجتماعنا بهم ليلي احتفاء وتقدير بعد موافقتهم من بعد ان ينتهون من مقابلاتهم الرسمية في المساء للملك وولي العهد والامراء والوزراء في ذلك الوقت رحم الله الأموات وحفظ من لازال على قيد الحياة..
قلت قررنا ان يكون لقائنا بمشايخنا ليلي في مخيم ابتنيناه للسمر بالقرب من الجنادرية.. فكانت من أجمل الليالي واطيبها في جو ربيعي ممطر، وأكثرها مشاهدة بسماع سوالف شيوخنا في تبسطهم معنا وكأنهم مع تقديرهم للجميع يعلموننا عن تاريخ لهم وللقبائل في سالف العصر وخاصة من بعد مبايعة زهران وغامد للملك عبد العزيز رحمه الله عام ١٣٣٨هـ، وعن منطقتنا وامالهم لتطويرها مع سرد قصص لكل منهم سواء مع قبيلته او مع قبائل اخر في الإصلاح وجبر خطر المكلومين وتقريب وجهات النظر بين افراد قبيلة كل منهم.. فكانت دروس من الحياة في تجارب ثقات من ثقات...!!
ثم تحدثت مع نفسي مستذكرا ومتذكر صداقة المغفور له الشيخ عبد الوهاب الصعيري والشيخ عبد العزيز بن عبد الهادي شيخ بني عبد الله رحمهم الله جميعا، ونحن عطية الشدوي ومحمد قليل رحمهم الله ومحدثكم، كنا نتلقى دعوة من الشيخ عبد العزيز بن عبد الهادي لزيارته في بيته العامر بقرية السواد شرق مدينة الباحة، وكان الشيخ بن عبد الهادي شيخ بني عبد الله هو من يعد دلة القهوة بنفسه من حمس الى ان يقدمها بنفسه لضيوفه، فلم اجده في يوم من الايام ينادي بقهوة من اهله او شاي أذ كان في مجلس كبير اشبه بمجلس ملكي يحتفي بحب لكل من زاره.
فيرتب لنا طلعة تارة أسفل شمرخ وتارة على طريق العقيق، وهكذا يختار هو الموقع بكرم وسخاء، ولا يسمح بان يشاركه أحد فيما يقوم به من ضيافة من ماكل ومشرب فكانت سيارة مخصصة بنقل الانعام لذبحها في وجبات أيام وليالي الرحلة من غداء وللعشاء، ذلك الكرم جبل عليه الرجل سواء لربعه في الأعياد او لمن يقصده.. ـ فنجد شيخنا الصعيري رحمه الله يستميت بان يتكلف هو ولو بجزء من الرحلة فيرفض الشيخ عبد العزيز بن عبد الهادي رحمهم الله ـ، والشيخ القاضي صالح الحمراني ومعهم اخرين من ربع بن عبد الهادي وبعض أصدقائه من غامد في مقدمة الحضور ونمكث في مكان الرحلة بين سوالف ومسامرات وقنص وبارة وحجل وحراج،- وقت الحراج وطريقته ومكانة ربما اتناول ذلك الموروث في موضوع مستقل ـ، لتبدا رحلتنا من بعد ان يقدم لنا وجبة العشاء يوم الأربعاء، اذ نجده في استقبالنا وبعد شرب القهوة يقدم لنا عشاء مطبوخ في بيته وتحت اشرافه مكون من ذبيحة مطبوخ معها رز بكه وهذا النوع من الأرز اعتقد اول رز وصل الى الجزيرة العربية والخليج من الهند له مذاق لا يعرفه الا من تذوقه أيام الجوع او بعد توفر النعمة في استمرارية اكله.
المهم وكما اسلفت نستمر في رحلتنا البرية الى عصر الجمعة وقت عودتنا للرياض بالطائرة فنودعهم ليتولى أحد أبناء الشيخ بن هادي رحمه الله ايصالنا الى مطار العقيق بالباحة ومنه الى الرياض.
ثم ذكرتني نفسي وانا بين اموات في قبورهم، ومن بينهم امي رحمها الله وبعض ممن لهم في القلب معزة واحترام من قبيلتي بالحكم ومعارف اعزاء رحم الله الجميع، أقول ذكرتني نفسي باشخاص عرفناهم تعارفنا وفرقتنا ظروف الحياة والتقينا في مقبرة الشهداء بمكة المكرمة لنودع الشيخ عبد الوهاب الصعيري رحمه الله الوداع الذي لا لقاء بعده.. أقول تذكرت منزله الذي استضافنا فيه، والذي كان يسكنه مع شقيقه علي رحمهم الله في قرية الجدلان ببطحان، ذلك المنزل الذي كان يسكنه بين تلك المزارع المنتجة من قمح وذرة مع رمان في صفوف مزروعة اشبه ما تكون بصفوف اللعابة في تناسق وتنسيق بديع.
وذكرتني نفسي الحزينة عليه وعلى من فقدنا ما كان به يتحدث ويسترسل في قهقة نابعة من القلب خاصة عندما يتحدث اخونا محمد بن راشد وكيل وزارة الصحة للخدمات وهو يسرد مواقف وقفشات مضحكة على بعضنا.. فقد كان بن راشد متعه الله بالصحة محراب للمحتاجين بالشفاعة في علاج من كان بحاجة الى علاج بالمستشفيات المتخصصة بالداخل والخارج او كان بمتابعة المحتاجين وطالبي الفزعة في أي وزارة، فله علاقات يتشفع للأخرين بها.. وكان مقدر عند وزراء الصحة ونوابهم، أقول كان بن راشد طيب المجلس انيس خلق واخلاق وتفضل على الكثير بماله وشيمته قريب من الناس جميعا.
ماذا بقي لي ان أقول عن تلك القامة العريقة شياخة ومشيخة..
بقي ان أقول انني عرفت الشيخ عبد الوهاب الصعير شيخ قبيلة بني بشير على طبيعته وطبعه زعيم قبيلة جبل على المروءة والشهامة والكرم وحب الخير كل الخير لمن عرفه من ربعه وغيرهم من قبيلته، ولم يتغير بما يذكر انه وقف حائل بين ما يرغب أي فرد من قبيلته.. بل داعم وفاعل ومتفاعل بجاهه وماله، فلم نسمع عنه ان مانع او وقف حائل بما يطلب منه كان الصمت والدعم بعدم اعتراض أحد.. بدليل لم نجد شيخ بندر تجار بطحان الصعيري في محكمة يقف ضد أحد من قبيلته او يكتب عن خطاء جاهل او متجاهل للجهات الرسمية بل يحل المشكلة وما يشكل على أحد بصمت من غير صناعة ضوضاء للإعلان عن ماعمل.. رحم الله الشيخ عبد الوهاب الصعيري وعوضنا وربعه فيه بخير فيمن خلف من أبناء بخيت صاحب المروءات عندما تذكر موائد الخير، وجابر عثرات الكرام في صفات خلق والده بابتسامة التي تسبق نطق لسانه مع الشيخ ماجد الصعيري واخوانه من اهل بيتهم وبني عمهم.
وبقي ان استحضر ماقيل من مأثر الرجال:
تموت الرجال وتمدح في مقابرها، وها نحن نذكرك وغيرنا كثير لا يملون من ذكرك أبا بخيت، - الناس شهود الله في ارضه - والدعاء لك بالرحمة والمغفرة وان يجمعنا بك ومن تحب ونحب في جنة عرضها السموات والارض.